فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يا أيُّها الذين ءامنُواْ قُواْ أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا} أي نوعا من النار {وقُودُها الناس والحجارة} تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، وروى أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار».
وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه، وفي الحديث: «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة» وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.
وقرئ {وأهلوكم} بالواو وهو عطف على الضمير في {قُواْ} وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل {قُواْ} أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب، وكذا اتعتبر التغليب في {قُواْ}، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية.
وقرأ الحسن ومجاهد {وقُودُها} بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة {عليْها ملئِكةٌ} أي أنهم موكولون يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل: وأعوانهم {غِلاظٌ شِدادٌ} غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في (زوائد الزهد) عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه {لاّ يعْصُون الله ما أمرهُمْ} صفة أخرى لملائكة و{ما} في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره تعالى كقوله تعالى: {أفعصيْت أمْرِى} [طه: 93] أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فهي كقوله تعالى: {لا يسْتكْبِرُون عنْ عِبادتِهِ} [الأنبياء: 19]، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: {ولا يسْتحْسِرُون} إلى {لا يفْتُرُون} [الأنبياء: 19]، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن بالحقيقة لأن الإتيان بالمأمور إنما يعدّ طاعة إذا كان بقصد الامتثال فإذا نفي العصيان عنهم دل على قبولهم وعدم إبائهم باطنا، والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الاستمرار المستفاد من {يفْعلُون} فلا تكرار، وفي المحصول {لاّ يعْصُون} فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية {ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} في الآتي.
وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أو أمر الله عز وجل والغضب له سبحانه.
{يا أيُّها الذين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ اليوم}
مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به، فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الاعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم {إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتهم عنهما أشد النهي وأمرتم بالايمان والطاعة على أتم وجه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يا أيُّها الّذِين آمنُوا قُوا أنْفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا}
كانت موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم وأن لا يصدّهم استبقاء الودّ بينهم عن إسداء النصح لهم وإن كان في ذلك بعض الأذى.
وهذا نداء ثان موجه إلى المؤمنين بعد استيفاء المقصود من النداء الأول نداءِ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1].
وجه الخطاب إلى المؤمنين ليأتنسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أهليهم.
وعبر عن الموعظة والتحذير بالوقاية من النار على سبيل المجاز لأن الموعظة سبب في تجنب ما يفضي إلى عذاب النار أو على سبيل الاستعارة بتشبيه الموعظة بالوقاية من النار على وجه المبالغة في الموعظة.
وتنكير {نار} للتعظيم وأجرى عليها وصف بجملة {وقودها الناس والحجارة} زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار.
وتذكيرا بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} في سورة [الأنبياء: 98].
وتفظيعا للنار إذ يكون الحجر عِوضا لها عن الحطب.
ووصفت النار بهذه الجملة لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر في علم المسلمين من قبل نزول هذه الآية بما تقدم في سورة [البقرة: 24] من قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} وبما تقدمهما معا من قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} في سورة [الأنبياء: 98].
و{الحجارة}: جمع الحجر على غير قياس فإن قياسه أحجار فجمعوه على حِجارٍ بوزن فِعال وألحقوا به هاء التأنيث كما قالوا: بِكارة جمع بكر، ومِهارة جمع مُهْر.
وزيد في تهويل النار بأنّ عليها ملائكة غلاظا شدادا وجملة {عليها ملائكة} إلى آخرها صفة ثانية.
ومعنى {عليها} أنهم موكلون بها.
فالاستعلاء المفاد من حرف (على) مستعار للتمكن كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
وفي الحديث: «فلم يكن على بابه بوّابون».
و{غلاظ} جمع غليظ وهو المتصف بالغلظة.
وهي صفة مشبهة وفعلها مِثل كرُم.
وهي هنا مستعارة لقساوة المعاملة كقوله تعالى: {ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] أي لو كنت قاسيا لما عاشروك.
و{شداد}: جمع شديد.
والشدة بكسر الشين حقيقتها قوة العمل المؤذي والموصوف بها شديد.
والمعنى: أنهم أقوياء في معاملة أهل النار الذين وكلوا بهم: يقال: اشتدّ فلان على فلان، أي أساء معاملته، ويقال: اشتدّت الحرب، واشتدت البأساء.
والشدة من أسماء البؤس والجوع والقحط.
وجملة {لا يعصون الله ما أمرهم} ثناء عليهم أعقب به وصفهم بأنهم غلاظ شداد تعديلا لما تقتضيانه من كراهية نفوس الناس إياهم، وهذا مؤذن بأنهم مأمورون بالغلظة والشدة في تعذيب أهل النار.
وأما قوله: {ويفعلون ما يؤمرون} فهو تصريح بمفهوم {لا يعصون الله ما أمرهم} دعا إليه مقام الإِطناب في الثناء عليهم، مع ما في هذا التصريح من استحضار الصورة البديعة في امتثالهم لما يؤمرون به.
وقد عُطف هذا التأكيد عطفا يقتضي المغايرة تنويها بهذه الفضيلة لأن فعل المأمور أوضح في الطاعة من عدم العصيان واعتبار لمغايرة المعنيين وإن كان قالهما واحد ولك أن تجعل مرجع {لا يعصون الله ما أمرهم} أنهم لا يعصون فيما يكلفون به من أعمالهم الخاصة بهم، ومرجع {ويفعلون ما يؤمرون} إلى ما كلفوا بعمله في العصاة في جهنم.
{يا أيُّها الّذِين كفرُوا لا تعْتذِرُوا الْيوْم إِنّما تُجْزوْن ما كُنْتُمْ تعْملُون (7)}
هو من قول الملائكة الذين على النار.
وذكر هذه المقالة هنا استطراد يُفيد التنفير من جهنم بأنها دار أهل الكفر كما قال تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة: 24]، وإلاّ فإن سياق الآية تحذير للمؤمنين من الموبقات في النار.
ومعنى {ما كنتم تعملون} مماثل {ما كنتم تعملون}، وأفادت {إنما} قصر الجزاء على مماثلة العمل المجزى عليه قصر قلب لتنزيلهم منزلة من اعتذر وطلب أن يكون جزاؤه أهون مما شاهده.
والاعتذار: افتعال مشتق من العُذر.
ومادة الافتعال فيه دالة على تكلف الفعل مثل الاكتساب والاختلاق، والعذر: الحجة التي تُبرئ صاحبها من تِبعة عمل مّا.
وليس لمادة الاعتذار فعل مجرد دال على إيجاد العذر وإنما الموجود عذر بمعنى قِبل العُذر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب} في سورة [براءة: 90]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب:
قال الله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا قُوا أنْفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وقُودُها النّاسُ والْحِجارةُ} [التحريم: 6] قال ابن عباس وغيره: أدبوهم وعلموهم وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس.
وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب وإصابة مواقعه وتحسين ألفاظه وصيانته عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العام والله أعلم.
فصل:
والأدب ثلاثة أنواع: أدب مع الله سبحانه وأدب مع رسوله وشرعه وأدب مع خلقه فالأدب مع الله ثلاثة أنواع أحدها: صيانة معاملته: أن يشوبها بنقيصة الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ويصل بأدبه في طاعته إلى الله وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده وقال ابن عطاء: الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل له: وما معناه فقال: أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا ثم أنشد:
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة ** وإن سكتت جاءت بكل مليح

وقال أبو علي: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين وقال أبو علي: ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله وقال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم.
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك.
وقال سهل: القوم استعانوا بالله على مراد الله وصبروا لله على آداب الله وقال ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقال: الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف وقال أبو حفص لما قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء كحال مجالس الملوك ومصاحبهم وقال أبو نصر السراج: الناس في الأدب على ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا: فأكبر آدابهم: في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك وأشعار العرب وأما أهل الدين: فأكثر آدابهم: في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات وأما أهل الخصوصية: فأكبر آدابهم: في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب وقال سهل: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها وتجنب تلك الرعونات وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي: ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي: ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب.
ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات وقال أبو عثمان: إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب وقال النوري رحمه الله: من لم يتأدب للوقت فوقته مقت وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن استعمال الأدب: فإنه يرجع من حيث جاء وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ علِمْتهُ} [المائدة: 116] ولم يقل: لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال: تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال: ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال: إنك أنت علام الغيوب ثم ن في أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به وهو محض التوحيد فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال: {وكُنْتُ عليْهِمْ شهِيدا ما دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنْت أنْت الرّقِيب عليْهِمْ} [المائدة: 117] ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم فقال: وأنت على كل شيء شهيد ثم قال: {إِنْ تُعذِّبْهُمْ فإِنّهُمْ عِبادُك} [المائدة: 118] وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له: لم تعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإباؤهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب وقد تقدم قوله: {إِنّك أنْت علّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب ثم قال: {وإِنْ تغْفِرْ لهُمْ فإِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيمُ} [المائدة: 118] ولم يقل الغفور الرحيم وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم والأمر بهم إلى النار فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة بل مقام براءة منهم فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ليست عن عجز عن الانتقام منهم ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ولجهله بمقدار إساءته إليه والكمال: هو مغفرة القادر العالم وهو العزيز الحكيم وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب.
وفي بعض الآثار: حملة العرش أربعة:
اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك.
واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى كقوله: {والله علِيمٌ حلِيمٌ} وقوله: {وكان الله عفُوّا غفُورا} وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم {الّذِي خلقنِي فهُو يهْدِينِ والّذِي هُو يُطْعِمُنِي ويسْقِينِ وإِذا مرِضْتُ فهُو يشْفِينِ} [الشعراء: 7880] ولم يقل وإذا أمرضني حفظا للأدب مع الله وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة: {فأردْتُ أنْ أعِيبها} [الكهف: 79] ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها وقال في الغلامين: {فأراد ربُّك أنْ يبْلُغا أشُدّهُما} [الكهف: 82] وكذلك قول مؤمني الجن: {وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ} [الجن: 10] ولم يقولوا: أراده ربهم ثم قالوا: أم أراد بهم ربهم رشدا وألطف من هذا قول موسى عليه السلام: {ربِّ إِنِّي لِما أنْزلْت إِليّ مِنْ خيْرٍ فقِيرٌ} [القصص: 24] ولم يقل أطعمني وقول آدم عليه السلام: {ربّنا ظلمْنا أنْفُسنا وإِنْ لمْ تغْفِرْ لنا وترْحمْنا لنكُوننّ مِن الْخاسِرِين} [الأعراف: 23] ولم يقل: رب قدرت علي وقضيت علي وقول أيوب عليه السلام: {مسّنِي الضُّرُّ وأنْت أرْحمُ الرّاحِمِين} [الأنبياء: 83] ولم يقل فعافني واشفني وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هذا تأْوِيلُ رُؤْياي مِنْ قبْلُ قدْ جعلها ربِّي حقّا وقدْ أحْسن بِي إِذْ أخْرجنِي مِن السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يقل: أخرجني من الجب حفظا للأدب مع إخوته وتفتيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب وقال: {وجاء بِكُمْ مِن الْبدْوِ} ولم يقل: رفع عنكم جهد الجوع والحاجة أدبا معهم وأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه فقال: {مِنْ بعْدِ أنْ نزغ الشّيْطانُ بيْنِي وبيْن إِخْوتِي} فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
ومن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يستر عورته وإن كان خاليا لا يراه أحد أدبا مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه ومعرفة وقاره.
وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل فإن لله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد فألهمه ومكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل قال الله تعالى: {ونفْسٍ وما سوّاها فألْهمها فُجُورها وتقْواها قدْ أفْلح منْ زكّاها وقدْ خاب منْ دسّاها} [الشمس: 7-10] فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
وجرت عادة القوم: أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيه حين أراه ما أراه: {ما زاغ الْبصرُ وما طغى} [النجم: 17] وأبو القاسم القشيري صدر باب الأدب بهذه الآية وكذلك غيره وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه وهذا كمال الأدب والإخلال به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلع أمام المنظور فالالتفات زيغ والتطلع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة فكمال إقبال الناظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وفي هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر: تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر فتواطأ في حقة مشهد البصر والبصيرة ولهذا قال سبحانه وتعالى: {ما كذب الْفُؤادُ ما رأى أفتُمارُونهُ على ما يرى} [النجم: 11-12] أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره ولهذا قرأها أبو جعفر {ما كذب الفؤاد ما رأى} بتشديد الذال أي لم يكذب الفؤاد البصر بل صدقه وواطأه لصحة الفؤاد والبصر أو استقامة البصيرة والبصر وكون المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقا وقرأ الجمهور {ما كذب الفؤاد} بالتخفيف وهو متعد و{ما رأى} مفعوله: أي ما كذب قلبه ما رأته عيناه بل واطأه ووافقه فلمواطأة قلبه لقالبه وظاهره لباطنه وبصره لبصيرته: لم يكذب الفؤاد البصر ولم يتجاوز البصر حده فيطغى ولم يمل عن المرئي فيزيغ بل اعتدل البصر نحو المرئي ما جاوزه ولا مال عنه كما اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراض عما سواه فإنه أقبل على الله بكليته وللقلب زيغ وطغيان كما للبصر زيغ وطغيان وكلاهما منتف عن قلبه وبصره فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه فإن عادة النفوس إذا أقيمت في مقام عال رفيع: أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه ألا ترى إلى موسى لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة: طلبت نفسه الرؤية ونبينا لما أقيم في ذلك المقام وفاه حقه: فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة ولأجل هذا ما عاقه عائق ولا وقف به مراد حتى جاوز السموات السبع حتى عاتب موسى ربه فيه وقال: يقول بنو إسرائيل: إني كريم الخلق على الله وهذا قد جاوزني وخلفني علوا فلو أنه وحده ولكن معه كل أمته وفي رواية للبخاري: «فلما جاوزته بكى قيل: ما يبكيك قال: أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي» ثم جاوزه علوا فلم تعقه إرادة ولم تقف به دون كمال العبودية همة ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوه الطرف فيضع قدمه عند منتهى طرفه مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذي سبق به العالم أجمع في سيره فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره كما كان قدمه لا يتأخر عن محل معرفته فلم يزل في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه وتكميل مراتب عبوديته له حتى خرق حجب السموات وجاوز السبع الطباق وجاور سدرة المنتهى ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين فانصبت إليه هناك أقسام القرب انصبابا وانقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا وأقيم مقاما غبطه به الأنبياء والمرسلون فإذا كان في المعاد أقيم مقاما من القرب ثانيا يغبطه به الأولون والآخرون واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله ما زاغ البصر عنه وما طغى فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم فقال تعالى: {يس والقرآن الْحكِيمِ إِنّك لمِن الْمُرْسلِين على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ} [يس: 1-4] فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته حتى يجوزونه إلى جنات النعيم {وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
فصل:
والأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى: {خُذُوا زِينتكُمْ عِنْد كُلِّ مسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة.
وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لاسيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا ومن الأدب: نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة قال: وهذا من جهلهم بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول على نقيض قولهم إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وسمعته يقول في نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله: أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به.
ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم والصحيح: أن هذا الأدب: يعم الفضاء والبنيان كما ذكرنا في غير هذا الموضع ومن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد: أنه من السنة و: كان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به ومنها: السكون في الصلاة وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه: {الّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ دائِمُون} [المعارج: 23] قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: {الّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ دائِمُون} أهم الذين يصلون دائما قال: لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.
قلت: هما أمران الدوام عليها والمداومة عليها فهذا الدوام والمداومة في قوله تعالى: {والّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ يُحافِظُون} [المعارج: 34] وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السمع وهو شهيد وأدبه في الركوع: أن يستوي ويعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء.
والمقصود: أن الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا والله المستعان.
فصل:
وأما الأدب مع الرسول: فالقرآن مملوء به.
فرأس الأدب معه: كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة: أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلا وحملا فقال: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بلْ قُلُوبُهُمْ فِي غمْرةٍ مِنْ هذا ولهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِك هُمْ لها عامِلُون حتّى إِذا أخذْنا مُتْرفِيهِمْ بِالْعذابِ إِذا هُمْ يجْأرُون لا تجْأرُوا الْيوْم إِنّكُمْ مِنّا لا تُنْصرُون قدْ كانتْ آياتِي تُتْلى عليْكُمْ فكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تنْكِصُون مُسْتكْبِرِين بِهِ سامِرا تهْجُرُون أفلمْ يدّبّرُوا الْقول أمْ جاءهُمْ ما لمْ يأْتِ آباءهُمُ الْأوّلِين أمْ لمْ يعْرِفُوا رسُولهُمْ فهُمْ لهُ مُنْكِرُون أمْ يقولون بِهِ جِنّةٌ بلْ جاءهُمْ بِالْحقِّ وأكْثرُهُمْ للحقِّ كارِهُون ولوِ اتّبع الْحقُّ أهْواءهُمْ لفسدتِ السّماواتُ والْأرْضُ ومنْ فِيهِنّ بلْ أتيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فهُمْ عنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُون أمْ تسْألُهُمْ خرْجا فخراجُ ربِّك خيْرٌ وهُو خيْرُ الرّازِقِين وإِنّك لتدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتقِيمٍ وإِنّ الّذِين لا يُؤْمِنُون بِالْآخِرةِ عنِ الصِّراطِ لناكِبُون} [المؤمنون: 6374].
والناصح لنفسه العامل على نجاتها: يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع: فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان ومن الأدب مع الرسول: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تُقدِّمُوا بيْن يديِ الله ورسُولِهِ} [الحجرات: 1] وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى.
ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى: {لا تجْعلُوا دُعاء الرّسُولِ بيْنكُمْ كدُعاءِ بعْضِكُمْ بعْضا} [النور: 63] وفيه قولان للمفسرين أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا نبي الله فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء أجاب وإن شاء ترك بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم.
ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى: {إِنّما الْمُؤْمِنُون الّذِين آمنُوا بِالله ورسُولِهِ وإِذا كانُوا معهُ على أمْرٍ جامِعٍ لمْ يذْهبُوا حتّى يسْتأْذِنُوهُ} [النور: 62] فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه {فاسْألوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون} [النحل: 43] [الأنبياء: 7] ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.
فصل:
وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين: أدب خاص وللأب منهما: أدب هو أخص به ومع العالم: أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به وله مع الأقران أدب يليق بهم ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ولكل حال أدب: فللأ كل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب.
وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب.
فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة.
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك.
التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك جمزا وسعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي والله أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل الأدب: حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر العدوان هذا من أحسن الحدود فإن الانحراف إلى أحد طرفي الغلو والجفاء: هو قلة الأدب والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودا له فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين والعدوان: هو سوء الأدب وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه فإضاعة الأدب بالجفاء: كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حذفه سنة وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سراق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى فهذا هو التخفيف الذي أمر به لا نقر الصلاة وسرقها فإن ذلك اختصار بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليا وهو كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه: فليته شبع على القول الآخر وهو كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه ولكن لو أحس بجوعه لما قام من الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك لكن القلب شبعان من شيء آخر ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء عليهم السلام: أن لا يغلو فيهم كما غلت النصارى في المسيح ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود فالنصاري عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم والأمة الوسط: آمنوا بهم وعزروهم ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به ومثال ذلك في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية فإن الطرفين من العدوان الضار وعلى هذا الحد فحقيقة الأدب: هي العدل والله أعلم.
فصل:
قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: منع الخوف: أن لا يتعدى إلى اليأس وحبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن وضبط السرور: أن يضاهئ الجرأة يريد: أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله فإن هذا الخوف مذموم.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك: فهو غير محتاج إليه وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه وجهل بها وأما حبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وهذا إغراق في الطرف الآخر بل حد الرجاء: ما طيب لك العبادة وحملك على السير فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة فإذا انقطعت وقفت السفينة وإذا زادت ألقتها إلى المهالك وإذا كانت بقدر: أوصلتها إلى البغية.
وأما ضبط السرور: أن يخرج إلى مشابهة الجرأة فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم كما قيل:
لا تغلب السراء منهم شكرهم ** كلا ولا الضراء صبر الصابر

والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته ومواهب الرب تبارك وتعالى تنزل على القلب والروح فالنفس تسترق السمع فإذا نزلت على القلب تلك المواهب: وثبت لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها فالمسترسل معها الجاهل بها: يدعها تستوفي ذلك فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعددها فصالت به وطغت لأنها رأت غناها به والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال فكيف بما هو أعظم خطرا وأجل قدرا من المال بما لا نسبة بينهما: من علم أو حال أو معرفة أو كشف فإذا صار ذلك من حاصلها: انحرف العبد به ولابد إلى طرف مذموم من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك فوالله كم هاهنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أتيت ومن أين دهيت ومن أين أصبت وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك: أن يغلق عنه باب المزيد ولهذا كان العارفون وأرباب البصائر: إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل والانكسار ومطالعة عيوب النفس واستدعوا حارس الخوف وحافظوا على الرباط بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم عليه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاها وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس قربوس سرجه: انخفاضا وانكسارا وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفوس البشرية فيها: أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى عنان السماء فالرجل: من صان فتحه ونصيبه من الله وواره عن استراق نفسه وبخل عليها به والعاجز: من جاد لها به فيا له من جود ما أقبحه وسماحة ما أسفه صاحبها والله المستعان.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض والصعود من الرجاء إلى ميدان البسط ثم الترقي من السرور إلى ميدان المشاهدة ذكر في الدرجة الأولى: كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء وذلك سوء أدب.
فذكر مع الخوف: أن يخرجه إلى اليأس ومع الرجاء: أن يخرجه إلى الأمن ومع السرور: أن يخرجه إلى الجرأة ثم ذكر في هذه الدرجة: أدب الترقي من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه عليها ولا يضيعها بالكلية كما أن في الدرجة الأولى: لا يبالغ به بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض يعني لا يزايل الخوف بالكلية فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان البسط بل يكون بين القبض والبسط وهذه حال الكمل وهي السير بين القبض والبسط وسروره: لا يقعد به عن ترقيه إلى ميدان مشاهدته بل يرقى بسروره إلى المشاهدة ويرجع من رجائه إلى البسط ومن خوفه إلى القبض.
ومقصوده: أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها فإن الخوف شبح والقبض روحه والرجاء شبح والبسط روحه والسرور شبح والمشاهدة روحه فيكون حظه من هذه الثلاثة: أرواحها وحقائقها لا صورها ورسومها.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: معرفة الأدب ثم الفناء عن التأدب بتأديب الحق ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب قوله: معرفة الأدب يعني لابد من الاطلاع على حقيقته في كل درجة وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة فإنه يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين فإذا عرفه وصار له حالا فإنه ينبغي له أن يفنى عنه بأن يغلب عليه شهود من أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه ويفنى عن رؤية نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه ومنته فهذا هو الفناء عن التأدب بتأديب الحق قوله: ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب يعني: أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي غيبته عن الأدب ففناؤه عن الأدب فيها: هو الأدب حقيقة فيستريح حينئذ من كلفة حمل أعباء الأدب وأثقاله لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئا من أعباء الأدب والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.